فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ}
{كلا} بمعنى حقًّا، والوقف على {تكذبون}.
وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما ظنوا، بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عِليين.
وقال مقاتل: كَلاّ، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يَصْلَونه.
ثم استأنف فقال: {إِن كتاب الأبرارِ} مرفوع في {عليين} على قدر مرتبتهم.
قال ابن عباس: أي في الجنة.
وعنه أيضاً قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين.
ورَوَي ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سِدْرة المنتهى، ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب.
فذلك قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار}.
وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صُعد بها إلى السماء، وفُتحت لها أبواب السماء، وتلقَّتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رَقّ فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون.
وقال قتادة أيضاً: {لفِي عِلييِّن} هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى.
وقال البَرَاء بن عازِب قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عِلِّيون في السماء السابعة تحت العرش» وعن ابن عباس أيضاً: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه.
وقال الفراء: {عِليون} ارتفاع بعد ارتفاع.
وقيل: {عليون} أعلى الأمكنة.
وقيل: معناه علوّ في علوّ مضاعف، كأنه لا غاية له؛ ولذلك جمع بالواو والنون.
وهو معنى قول الطبريّ.
قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظة؛ كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعاً ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون.
وهي معنى قول الطبري.
وقال الزجاج: إعراب هذا الأسم كإعراب الجمع، كما تقول: هذه قِنَّسْرون، ورأيت قِنسرين.
وقال يونس النحوي واحدها: على وعِلية.
وقال أبو الفتح: عِليين: جمع على، وهو فِعِّيل من العلوّ.
وكان سبيله أن يقول عِلِّية كما قالوا للغرفة عِلِّية؛ لأنها من العلو، فلما حذف التاء من عِلية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين.
وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملأ الأعلى؛ كما يقال: فلان في بني فلان؛ أي هو في جملتهم وعندهم.
والذي في الخبر من حديث ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل عِليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عِليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عِليين الأبرار أهل الطاعة والصدق»
وفي خبر آخر: «إن أهل الجنة ليرون أهل عِليين كما يُرى الكوكب الدُّرِّيُّ في أفق السماء» يدل على أن عِليين اسم الموضع المرتفع.
وروى ناس عن ابن عباس في قوله: {عِليين} قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة.
ثم قال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة.
ثم فسره له فقال: {كتاب مرقوم يَشْهَدُهُ المقربون}.
وقيل: إن {كتاب مرقوم} ليس تفسير العِليين، بل تم الكلام عند قوله: {عليون} ثم ابتدأ وقال: {كتاب مرقوم} أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار؛ قاله القشيريّ.
وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد فيستقبلِّونهُ فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفَظَة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.
قوله تعالى: {يَشْهَدُهُ المقربون} أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة.
وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صَعِدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله: {يشهده المقربون} أي يشهد كتابتهم.
قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار} أي أهل الصدق والطاعة.
{لَفِي نَعِيمٍ} أي نَعْمة، والنَّعمة بالفتح: التنعيم؛ يقال: نَعَّمه الله وناعمه فتنعم، وامرأة منعَّمة ومناعَمة بمعنى.
أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون.
{على الأرآئك} وهي الأسرة في الحجِال {يَنظُرُونَ} أي إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات؛ قاله عكرمة وابن عباس ومجاهد.
وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ينظرون إلى أعدائهم في النار» ذكره المَهْدَوِيّ.
وقيل: على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله.
قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجته وغضارته ونوره؛ يقال: نضر النبات: إذا ازهر ونوّر.
وقراءة العامة {تعرِفُ} بفتح التاء وكسر الراء {نَضْرةَ} نصباً؛ أي تعرف يا محمد.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق: {تُعْرَف} بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول {نضرة} رفعاً.
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} أي من شراب لا غِش فيه.
قاله الأخفش والزجّاج.
وقيل، الرحيق الخمر الصافية.
وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر.
والمعنى واحد.
الخليل: أصفى الخمر وأجودها.
وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:
يَسْقون مَنْ وَرَدَ البريصَ علَيْهِمُ ** بَرَدَى يُصَفَّق بالرِحيقِ السلسلِ

وقال آخر:
أمْ لا سبِيلَ إِلى الشباب وذكره ** أَشْهى إِلىّ مِن الرحيقِ السَّلْسَلِ

{مَّخْتُومٍ} {ختامه مسك} قال مجاهد: يختم به آخر جُرْعة.
وقيل: المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس، انختم ذلك بخاتم المسك.
وكان ابن مسعود يقول: يجدون عاقبتها طعم المسك.
ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا: ختامه آخر طعمه.
وهو حسن؛ لأن سبيل الأشربة أن يكون الكَدَر في آخرها، فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره رائحة المسك.
وعن مسروق عن عبد الله: قال المختوم الممزوج.
وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يَفُكَّ ختامها الأبرار.
وقرأ على وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي {خاتمه} بفتح الخاء والتاء وألف بينهما.
قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل خاتمه مسكاً، قاله الفراء.
وفي الصحاح: والخِتام: الطين الذي يُخْتم به.
وكذا قال مجاهد وابن زيد: خُتم إناؤه بالمسك بدلاً من الطين.
حكاه المهدويّ.
وقال الفرزدق:
وبِت أَفُضّ أَغلاق الخِتامِ

وقال الأعشى:
وأبرزها وعليها خَتَمْ

أي عليها طينة مختومة؛ مثل نَفْضٍ بمعنى منفوضٍ، وقَبْضٍ بمعنى مقبوضٍ.
وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {ختامه مسك}: خَلْطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خِلْطه من الطِّيب كذا وكذا.
إنما خِلْطه مسك؛ قال: شراب أبيض مثل الفضة يختِمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها.
وروي أُبَيُّ بن كعب قال: «قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: غُدْران الخمر».
وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الأنهار. فالله أعلم.
{وَفِي ذَلِكَ} أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي فليرغب الراغبون؛ يقال: نَفَسْت عليه الشيء أَنْفسِه نفاسة: أي ضنِنت به، ولم أحبَّ أن يصير إليه.
وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل؛ نظيره: {لِمِثلِ هذا فليعملِ العامِلون}.
{وَمِزَاجُهُ} أي ومزاج ذلك الرحيق {مِن تَسْنِيمٍ} وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب في الجنة.
وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو ألى أسفل؛ ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور.
وروي عن عبد الله قال: {تسنيم} عين في الجنة يشرب بها المقرّبون صِرْفاً، ويمزح منها كأس أصحاب اليمين فتطيب.
وقال ابن عباس في قوله عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} قال: هذا مما قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء؛ قاله قتادة.
ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش.
وكذا في مراسيل الحسن.
وقد ذكرناه في سورة (الإنسان).
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} أي يشرب منها أهل جنة عدنٍ، وهم أفاضل أهل الجنة، صِرْفاً، وهي لغيرهم مِزاج.
و(عينا) نصب على المدح.
وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنِيم معرفة، ليس يعرف له اشتقاق، وإن جعلته مصدراً مشتقاً من السنام ف {عينا} نصب؛ لأنه مفعول به؛ كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يوم ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14-15] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم.
وعند الأخفش بـ: {يُسْقَون} أي يسقون عينا أو من عين.
وعند المبرد بإضمار أعني على المدح. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَلاَّ} تكرير للردع السابق في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار} [المطففين: 7] إلخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعاراً بأن التطفيف فجور والإيفاء بر وقيل ردع عن التكذيب فلا تكرار {إِنَّ كتاب الأبرار لَفِي عليين}.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)}
الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في {عليين} على وجه آخر غير اختلافهم في {سجين} فقال غير واحد هو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك أما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنه مرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمني مع الملائكة المقربين عليهم السلام تعظيماً له وقيل هو المواضع العلية واحده على وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكى ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف لملائكة ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظه كعشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعاً ولم يكن له بناء واحدًّا ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون.
{يَشْهَدُهُ المقربون} صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أن من الشهادة وعلى الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا.
وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية فقال إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز وجل فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدوا له فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى: {كتاب مرقوم أُوْلَئِكَ المقربون} وسأله عن قوله تعالى: {إِنَّ كتاب الفجار} [المطففين: 7] الآية فقال إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجين ويكون في عليين فقد أخرج ابن المبارك عن صخرت بن حببي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على مافي نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجني ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين» وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل.
وقوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} شروع في بيان محاسن أحوالهم إثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل هذا حال كتابهم فما حالهم فأجيب بما ذكر أي أنهم لفي نعيم عظيم.
{على الأرائك} أي على الأسرة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها {يُنظَرُونَ} أي إلى ما شاؤا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد إلى ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات وقال مقاتل إلى أهل النار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيساً وقيل ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالباً وفيه إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة كما وردت به الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام وعليه يكون قوله سبحانه: {تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجة النعيم ورونقه لنفي ما يوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في {تعرف} لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن مال هم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب {تعرف} مبنياً للمفعول {نضرة} رفعاً على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل {تعرف} ضمير {الأبرار} و{في وجوههم نضرة} مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأ زيد بن على كذلك إلا أنه قرأ {يعرف} بالياء إذ تأنيث {نضرة} مجازي.
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} قال الخليل هو أجود الخمر.
وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

وفسر هاهنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول.
{ختامه مسك} أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روى عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا إسناده وقولنا {مختوم} أوانيه إلخ اليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الاستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهاراً لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان عن ذلك بالختم.
وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالانهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى.
وقيل إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعود عليه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي {خاتمه} بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضاً فإن فاعلاً بالفتح يكون أيضاً اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الإنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعني {على الأرائك ينظرون} و{تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ} إلخ و{يُسْقَوْنَ} إلخ قيل أحوال مترادفة وقيل مستأنفات كجملة {أن الأبرار} [المطففين: 22] إلخ وقعت أجوبة للسؤال في حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم {وَفِى ذَلِكَ} إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: {فَلْيَتَنَافَسِ} وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أولاً في غيره من ملاذها ونعيمها {المتنافسون} أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى وقيل أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 61] أي فليستبق في تحصيل ذلك المتسابقون وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها.
قال الواحدي نفست الشيء أنفسه نفاسة والتنافس تفاعل منه كان كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به.
وقال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه ويقال نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه وفي مفردات الراغب المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخف واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك وأجيب بأنه بتقدير القول أي ويقولون لشدة التلذذ من غير اختيار في ذلك فليتنافس المتنافسون أي في الدنيا علي معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك.
وقيل الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون وتقديم الظرف ليكون عوضاً عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم.
وقوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} عطف على {ختامه مسك} [المطففين: 26] صفة أخرى لـ: {رحيق} مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته و{تسنيم} علم لعين بعينها في الجنة كما روى عن ابن مسعود وعن حذيفة اليمان أنه قال عين من عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روى عن ابن عباس أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روى عن الكلبي وروى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم وقيل سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم من كونه علماً لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه و{من} بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسليم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية.
{عَيْناً} نصب على المدح وقال الزجاج على الحال من د {تسنيم} قيل وصح كونه حالاً مع جموده لوصفه بقوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الاشتقاق غير لازم والباء أما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها أو على تضمين {يشرب} معنى يروى أي يشرب راوين بها أو يروى بها شاربي المقربون أو صلة الالتذاذ أي يشرب ملتذاً بها أو الامتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجاً بها أو الاكتفاء أي يشب مكتفين بها أوجه ذكروها وفي كونها صلة الامتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح يشرب بها المقربون صرفاً وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن {الأبرار} هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق والمدامة التي تواصي على شربها ذووا الأذواق والتحقيق.
على نفسه فليبك من ضاع عمره ** وليس له منها نصيب ولا سهم

وقال قوم {الأبرار} و{المقربون} في هذه السورة بمعنى واحد يشمل كل من نعم في الجنة. اهـ.